فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو حيان:

سمي ذلك عفوًا إما على طريق المشاكلة، لأن قبله {إلا أن يعفون} أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه: «فأين درعك الحطيمة» يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله وعليها، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه. اهـ.

.قال الفخر:

للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي، وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} إما الزوج وإما الولي، وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له ألبتة على عقدة النكاح، فوجب حمله على الولي.
إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل: بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره، قال تعالى: {لَكُمْ دِينَكُمْ} [الكافرون: 6] أي لا لغيركم، فكذا هاهنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره، وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب والله أعلم. اهـ.
وقال الفخر:
قوله تعالى: {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} هذا خطاب للرجال والنساء جميعًا إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث، وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى أما في اللفظ فلأنك تقول: قائم.
ثم تريد التأنيث فتقول: قائمة.
فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل، والدال على المؤنث فرع عليه، وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث، فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلبًا. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وأن تعفوا أقرب للتقوى}. هذا خطاب للزوج والزوجة، وغلب المذكر، قاله ابن عباس.
وقال ابن عطية: خاطب تعالى الجميع تأدبًا بقوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} أي: يا جميع الناس. انتهى كلامه.
والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط، وقاله الشعبي، إذ هم المخاطبون في صدر الآية، فيكون ذلك من الالتفات، إذ رجع من ضمير الغائب، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها، إذ كان قد فاتها منه صحبته، فلا يفوتها منه نحلته، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها، فانجبرت بذلك.
وقرأ الشعبي، وأبو نهيك: وأن يعفوا، بالياء باثنتين من تحتها، جعله غائبًا، وجمع على معنى: الذي بيده عقدة النكاح، لأنه للجنس لا يراد به واحد، وقيل: هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج، قيل: والعفوا أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه. وقيل: لاتقاء معاصي الله. و: أقرب، يتعدّى بالَّلام كهذه، ويتعدّى بإلى كقوله: {ونحن أقرب إليه} ولا يقال: إن اللام بمعنى إلى، ولا إن اللام للتعليل، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية، وقد قيل: بأن اللام بمعنى إلى، فيكون ذلك من تضمين الحروف، ولا يقول به البصريون. وقيل أيضًا: إن اللام للتعليل، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه، والمفضل عليه في القرب محذوف، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبرًا للمبتدأ، والتقدير: والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {وأن تعفوا أقرب للتقوى} تذييل أي العفو من حيث هو، ولذلك حذف المفعول، والخطاب لجميع الأمة، وجيء بجمع المذكر للتغليب، وليس خطابًا للمطلقين، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق، لأنه عبر عنه بعد بقوله: {وأن تعفوا} وهو ظاهر في المذكر، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله: {أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} [النساء: 128].
ومعنى كون العفو أقرب للتقوى: أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع، والوازع شرعي وطبيعي، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة، فتكون التقوى أقرب إليه، لكثرة أسبابها فيه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{ولا تنسوا الفضل بينكم} الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله: {وأن تعفوا}.
والنسيان هنا الترك مثل: {نسوا الله فنسيهم} والفضل: هو فعل ما ليس بواجب من البر، فهو من الزوج تكميل المهر، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها، قاله مجاهد، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر.
ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص، فعرض عليه بنتًا له، فتزوّجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملًا، فقيل له: لم تزوّجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت ردّه، قيل: فلم بعثت بالصداق كاملًا؟ قال: فأين الفضل؟.
وقرأ علي، ومجاهد، وأبو حيوة، وابن أبي عبلة: ولا تناسوا الفضل. قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى، لأنه موضع تناسٍ لا نسيان إلاّ على التشبيه. انتهى.
وقرأ يحيى بن يعمر: ولا تنسوا الفضل، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين، تشبيهًا للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى: {لو استطعنا} كما شبهوا: واو: لو، بواو الضمير، فضموها، قرأ: {لو استطعنا} بضم الواو.
وانتصاب: بينكم، بالفعل المنهي عنه و: بين، مشعر بالتخلل والتعارف، كقوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهرًا بينهم، قد تواطأوا عليه وعلموا به، لأن ما تخلل أقوامًا يكون معروفًا عندهم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

وقوله: {ولا تنسوا الفضل بينكم} تذييل ثان، معطوف على التذييل الذي قبله، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي، وفي الطباع السليمة حب الفضل.
فأُمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه، فيضمحل منهم، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.
والنسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى: {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} [السجدة: 14] وهو كثير في القرآن، وفي كلمة {بينكم} إشارة إلى هذا العفو، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن الله بما تعملون بصير} ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهنّ الصداق، هو مشاهد مرئي، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات.
ولما كان آخر قوله: {والذين يتوفون منكم} الآية قوله: {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ} مما يدرك بلطف وخفاء، ختم ذلك بقوله: {والله بما تعملون خبير}. اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}.
الحكم الرابع عشر: خطبة النساء وذلك قوله سبحانه: {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء} والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح، ولهذا قد يقال: إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج: جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم.
ومنه قول الشاعر:
وحسبك بالتسليم مني تقاضيًا

وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل: إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب وهو قسم من أقسام الكناية. والخطبة أصلها من الخطب وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمرًا وشأنًا في نفسها. وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأنًا. ثم النساء على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تجوز خطبتها تعريضًا وتصريحًا وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه» فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافًا لمالك. وثانيها: ما لا يجوز خطبتها تعريضًا ولا تصريحًا وهي منكوحة الغير، لأن خطبتها ربما صارت سببًا لتشويش الأمر على زوجها، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغبًا فيها، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان. وثالثها: ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة، أو عن طلقات ثلاث، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة، أو عن فسخ. وسبب التحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج. وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب. قال الشافعي: والتعريض كثير كقوله رب راغب فيك أو من يجد مثلك أو لست بأيم وإذا حللت فأعلميني. وعد آخرون من ألفاظ التعريض أو يقول لها: إنك لجميلة أو صالحة ومن غرضي أن أتزوج وعسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه. والتصريح أن يقول: إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك. وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام.
فقالت: غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله. قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده. فما كانت تلك خطبة {أو أكننتم في أنفسكم} أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم، لا معرّضين ولا مصرحين. أباح التعريض في الحال أولًا ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال: {علم الله أنكم ستذكرونهن} لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبئ عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج. ثم قال: {ولكن} أي فاذكروهن ولكن {لا تواعدوهن سرًا} والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر. ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح {إلا أن تقولوا قولًا معروفًا} وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا. والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكدًا لذلك التعريض. فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعًا من التصريح، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله: إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة. وعن ابن عباس أو كقوله: دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك. عن الحسن أو يكون ذلك نهيًا عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة، أو نهيًا أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه. ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سرًا إلا بأن تقولوا قولًا معروفًا وهو التعريض. وعن ابن عباس هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره {ولا تعزموا عقدة النكاح} من عزم الأمر وعزم عليه. والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى. وقيل: معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل» وروي: «لم يبيت الصيام» وقيل: لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا. وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقودًا تشبيهًا بالحبل الموثق بالعقد {حتى يبلغ الكتاب أجله} المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت، ويحتمل أن يكون مصدرًا بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته.
وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم.
الحكم الخامس عشر: حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلًا على كل حال، وذلك البدل إما أن يكون مذكورًا أو غير مذكور. فإن كان مذكورًا فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية، وإن لم يكن البدل مذكورًا فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياسًا على الموطوءة بالشبهة، بل أولى لوجود النكاح الصحيح. وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى: {فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن} [النساء: 24] ويحتمل أن يقال: هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضًا لها، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة. وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام. فإن قيل: ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك، فإنه لا جناح عليه أيضًا بعد المسيس. قلنا: لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه، أو لعل ما بمعنى التي لا للمدة. والتقدير: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال: جنحت السفينة إذا مالت بثقلها. ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدودًا إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض. والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر. وأيضًا إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده. وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني. واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم. والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدرًا من المهر.
ومعنى أو هاهنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم. وقيل: إنها بمعنى الواو. وقيل: بمعنى إلا أن وقيل: بمعنى حتى والكل تعسف. ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية، ذكر أن لها المتعة فقال: {ومتعوهن} فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظرًا إلى الأمر، وأنه للوجوب ظاهرًا وهو قول شريح والشعبي والزهري. وعن مالك: ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية: {حقًا على المحسنين} فجعلها من باب الإحسان. ورد بأن لفظ على منبئ عن الوجوب. وكذا قوله: {حقًا} وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعًا منقضيًا ولهذا قيل: الدنيا متاع. ويسمى التلذذ تمتعًا لانقطاعه بسرعة. {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده. وقدره أي قدرًا مكانه وطاقته فحذف المضاف، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به. والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر. قال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهمًا، وعلى المقتر مقنعة. وعن ابن عباس أنه قال: أكثر المتعة خادم، وأقلها مقنعة، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة، والنظر في اليسار والإعسار إلى العادة. وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها. ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى. {متاعًا} تأكيد لمتعوهن أي تمتيعًا بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك {حقًا على المحسنين} لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان، أو من أراد أن يكون محسنًا فهذا شأنه وطريقته، أو على المحسنين إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
الحكم السادس عشر: حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} الآية. واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة: الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي. فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائمًا.
والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضًا كان أو نفلًا. وقوله: {وقد فرضتم} في موضع الحال. ومعنى قوله: {فنصف ما فرضتم} فعليكم نصف ذلك، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت {إلا أن يعفون} أي المطلقات على أزواجهن فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئًا؟ والفرق بين قولك النساء يعفون وبين الرجال يعفون هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه يعفون والنون علامة الرفع، فقوله: {أو يعفو} عطف على محل {أن يعفون} والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة. وقيل: الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب. وكثير من الصحابة والتابعين قالوا: ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة. وأيضًا الذي بيد الولي هو عقدة النكاح، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو. حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفوًا اللهم إلا أن يقال: كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. أو يقال: سماه عفوًا على طريقة المشاكلة، أو لأن العفو والتسهيل. فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة. حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولًا: {وإن طلقتموهن} ناسب أن يقال: {إلا أن يعفون} أو تعفو على سبيل الخطاب أيضًا، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو. والمعنى إلا أن يعفون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقًا بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها. ثم قال الشافعي: إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي، وذلك للحصر المستفاد من تقديم {بيده} على {عقدة النكاح} فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء {وأن تعفوا أقرب للتقوى} قيل: اللام بمعنى إلى والتقدير: العفو أقرب إلى التقوى. والخطاب للرجال والنساء جميعًا إلا أنه غلب الذكور لأصالتهم وكمالهم، وإنما كان عفوًا لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقربًا إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه {ولا تنسوا الفضل} لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم، وليس نهيًا عن النسيان فإن ذلك غير مقدور، بل المراد منه الترك.
وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سببًا لتأذيها منه. وأيضًا إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سببًا لتأذيه منها، فلا جرم ندب الله تعالى كلًا منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف. عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتًا له فتزوجها. فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملًا فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده. قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال: {إن الله بما تعملون بصير}. اهـ.